في إطار سعيها لتعزيز البيئة الاستثمارية، تبنت قطر أدوات تسوية المنازعات البديلة – لا سيما التحكيم – كجزء من استراتيجيتها التنموية. في خطوة تعكس رغبة واضحة في خلق بيئة قانونية فعالة وجاذبة للمستثمرين، سواء المحليين أو الأجانب.
بدأت التجربة المؤسسية عام 2006 بتأسيس مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم (QICCA) التابع لغرفة تجارة قطر، بهدف تقديم بديل سهل وسريع لحل الخلافات التجارية والمالية خارج نطاق المحاكم التقليدية.
وعلى الرغم من هذه البداية المبكرة، اعتمدت قطر تنظيم تشريعي رسمي خاص للتحكيم في عام 2017، عبر قانون التحكيم رقم (2) لسنة 2017، والذي نظم كافة المنازعات المدنية والتجارية ذات الأبعاد الاقتصادية، بما في ذلك القطاعات المصرفية، الصناعية، الاستثمارية، التأمينية، والسياحية.
تُبرز هذه المؤشرات الدور المتزايد للتحكيم في قطر، كخيار مفضل لجذب الاستثمار عبر إزالة مخاوف التأخير في القضاء، وتوفير إجراءات مرنة ومتخصصة. وقد ساهم هذا التوجّه في ترسيخ مكانة قطر كمركز تحكيمي إقليمي، يتبنى التطورات القانونية ويتماشى مع المعايير الدولية.
يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل شامل للتحكيم في قطر، متناولاً إطاره التشريعي، والمسائل التي لا يجوز فيها التحكيم، ومدى توافق قانونه مع المعايير الدولية، وموقف الدولة من الاتفاقيات الدولية الرئيسية، بالإضافة إلى استعراض أبرز القضايا المتعلقة بالتحكيم وتنفيذ أحكامه.
التنظيم التشريعي للتحكيم في قطر
يُشكل القانون رقم (2) لسنة 2017 بإصدار قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية الأساس التشريعي للتحكيم في دولة قطر. يسري هذا القانون على المنازعات ذات الطبيعة الاقتصادية، سواء كانت تعاقدية أو غير تعاقدية، ويشمل نطاقاً واسعاً من المعاملات التجارية، الاستثمارية، المالية، المصرفية، الصناعية، التأمينية، والسياحية.
المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم
نصت المادة (7) من قانون التحكيم رقم (2) لسنة 2017 صراحةً على عدم جواز اللجوء إلى التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وهو ما يعني استبعاد كافة المسائل المتعلقة بالنظام العام، وكذلك الحقوق غير القابلة للتصرف فيها أو التنازل عنها.
تبني قانون التحكيم القطري لقواعد الأونسيترال
يعد قانون التحكيم القطري متوافقًا إلى حد كبير مع قواعد الأونسيترال النموذجية، إذ استلهم منها مبادئ أساسية مثل استقلال شرط التحكيم، ومبدأ الاختصاص بالاختصاص، وحرية الأطراف في اختيار المحكمين والإجراءات، وضمان المساواة وحق الدفاع، وحصر دور المحاكم في دعم العملية التحكيمية دون التدخل في موضوع النزاع، بما يعزز الثقة في التحكيم ويجعل البيئة القطرية القانونية جاذبة للاستثمار ومتسقة مع أفضل الممارسات الدولية في تسوية المنازعات.
موقف الدولة من الاتفاقيات الدولية
يعد موقف قطر من الاتفاقيات الدولية الرئيسية في مجال التحكيم والاستثمار مؤشراً واضحاً على سياستها الرامية إلى تعزيز بيئة استثمارية آمنة وموثوقة، وتوفير آليات فعالة لتسوية المنازعات على الصعيدين الإقليمي والدولي.
اتفاقية نيويورك 1958 (الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها): انضمت قطر إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها بموجب المرسوم الأميري رقم 29 لسنة 2003، وأصبحت الاتفاقية سارية المفعول في قطر اعتباراً من 15 مارس 2003. يعد هذا الانضمام حجر الزاوية في إطار الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وإنفاذها في قطر، مما يسهل على المستثمرين الأجانب تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحهم في ولايات قضائية أخرى.
اتفاقية واشنطن 1965 (ICSID): صادقت قطر على اتفاقية واشنطن لعام 1965 المتعلقة بإنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) بموجب مرسوم رقم (5) لسنة 2011، بعد أن وقعت عليها في 21 ديسمبر 2010. توفر هذه الاتفاقية آلية دولية لتسوية المنازعات بين الدول والمستثمرين الأجانب، مما يضيف طبقة أخرى من الحماية للمستثمرين.
اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs): وقعت دولة قطر على عدد كبير من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري والفني الثنائية مع دول أخرى، بهدف تعزيز وتنمية التعاون في مجالات متنوعة مثل الصناعة، التجارة، السياحة، الزراعة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. تهدف هذه الاتفاقيات إلى تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة، من خلال ضمان معايير محددة وغير تمييزية للمعاملة والحماية للاستثمار الأجنبي المباشر في الدولة المضيفة. وتُظهر بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) توقيع قطر على العديد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs)، بعضها دخل حيز التنفيذ والبعض الآخر لا يزال في مرحلة التوقيع، مما يعكس شبكة واسعة من العلاقات الاستثمارية الدولية.
أشهر قضايا التحكيم التي كانت قطر طرفاً فيها
قضية العواملة وآخرين ضد قطر (2018): تتعلق هذه الدعوى بادعاءات مقدمة من مستثمرين أردنيين ضد دولة قطر بسبب امتناع الحكومة القطرية، بحسب ادعاءاتهم، عن سداد مستحقاتهم المالية نظير خدمات إنتاج برامج تلفزيونية قدموها لها، كما ادعى المستثمرون أن الحكومة قامت لاحقًا بحجز أصولهم داخل قطر.
قضية الخطوط الجوية القطرية ضد الإمارات العربية المتحدة (2020) : تتعلق هذه الدعوى بإجراءات الحكومة الإماراتية المزعومة التي تضمنت إغلاق المجال الجوي وسحب التراخيص الممنوحة للخطوط الجوية القطرية، مما أدى إلى وقف عملياتها داخل الإمارات وإعاقة استثماراتها في قطاع النقل الجوي.
قضية قطر فارما وآل سليطي ضد السعودية (2019) : ادعى المستثمرون القطريون أن وزارة الصحة السعودية أخلّت بالعقود طويلة الأجل المبرمة معهم بعد قطع العلاقات الدبلوماسية في 2017، حيث امتنعت الوزارة عن دفع مستحقات المنتجات الموردة وأجبرتهم على إغلاق مستودعاتهم في الرياض وجدة والدمام، مما ألحق أضرارًا باستثماراتهم في شركات ومستودعاتك قطاع الأدوية في السعودية.
قضية العيافي ضد الأردن :(2015) تتعلق هذه الدعوى بادعاء المستثمر القطري العيافي بوجود إخلال من قبل صندوق الاستثمار والضمان الاجتماعي الأردني باتفاقية شراء أسهم في بنك الإسكان للتجارة والتمويل، حيث يدعي عدم سداد الصندوق للغرامة المتفق عليها (رسوم الفسخ) وفقًا للعقد المبرم في 2012.
تنفيذ أحكام التحكيم المحلية والأجنبية في قطر
ينظم القانون رقم (4) لسنة 2024 بشأن التنفيذ القضائي – في المواد 17 إلى 20 – إجراءات محددة لتقديم طلبات تنفيذ حكم التحكيم، وفقاً لقانون التحكيم القطري رقم 2 لسنة 2017 (مواد 33–35). من أبرزها اشتراط انقضاء مهلة الطعن بالبطلان (30 يوماً) قبل قبول طلب التنفيذ، ويُرفض أي طلب يُرفع قبل انتهاء هذه المهلة
يشترط القانون تقديم الطلب كتابة إلى محكمة التنفيذ، مرفقاً باتفاق التحكيم وأصل أو صورة مصدقة من الحكم، إضافة إلى ترجمة معتمدة إن صدر بلغة أجنبية. ولا يجوز رفض تنفيذ الحكم التحكيمي بسبب مكان صدوره أو جنسيته، إلا إذا توافرت إحدى أسباب الرفض المحددة في قانون التحكيم (مثل عدم القابلية للتحكيم أو مخالفة النظام العام) .
وللأطراف حق الطعن أو التظلم خلال 30 يوماً من صدور قرار رفض التنفيذ أمام المحكمة المختصة، بما يعزز حماية الحقوق ويُتيح المراجعة القانونية للقرار.
وفيما يخص تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، يضمن القانون تطبيق اتفاقية نيويورك لعام 1958، التي صادقت عليها قطر، كأساس لتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية. ويُلزم الطلب بمستندات تشمل الحكم، اتفاق التحكيم، ترجمة إن وجب، إثبات هوية، وقيد المنشأة أو التوكيل إن كان التمثيل بوكالة رسمية.
بهذه الخطوات، يوفّر القانون إطاراً قوياً وفعّالاً لتنفيذ أحكام التحكيم داخل قطر، يعزز من سرعة الإجراءات، وضمان التنفيذ الفوري، وفقاً لمعايير العدالة والوضوح.
خاتمة
لقد قطعت قطر شوطاً كبيراً في تطوير بيئتها التحكيمية، متحولة من مجرد وجود مراكز تحكيم إلى بناء إطار تشريعي متكامل ومحدث. هذا التطور، الذي توج بإصدار القانون رقم (2) لسنة 2017 وقانون التنفيذ القضائي رقم (4) لسنة 2024، يعكس التزاماً راسخاً بتعزيز التحكيم كوسيلة فعالة ومرنة لتسوية المنازعات التجارية والمدنية.
إن تبني قطر لقواعد الأونسيترال النموذجية وانضمامها إلى اتفاقيتي نيويورك وواشنطن، بالإضافة إلى شبكتها الواسعة من اتفاقيات الاستثمار الثنائية، يؤكد سعيها الحثيث نحو التوافق مع المعايير الدولية وتوفير بيئة استثمارية آمنة وجاذبة. وقد ساهمت هذه الخطوات في جعل التحكيم أداة رئيسية لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، من خلال تخفيف مخاوف المستثمرين من بطء إجراءات التقاضي التقليدية وتوفير سبل سريعة ومتخصصة لحل النزاعات.
على الرغم من التحديات التي قد تظهر، مثل القضايا التي تمس استقلالية المحكمين، فإن الجهود المستمرة لتحديث القواعد والإجراءات، كما يتضح في قواعد مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم لعام 2024، تؤكد إصرار الدولة على تعزيز الشفافية والكفاءة في نظامها التحكيمي.
في الختام، تُرسخ دولة قطر مكانتها كمركز إقليمي صاعد للتحكيم، وتعمل بجد على توفير بيئة قانونية موثوقة وداعمة للأعمال التجارية والاستثمار، مما يعزز من مكانتها على الخارطة الاقتصادية العالمية.