يعد التحكيم في العراق من الوسائل القانونية المهمة لتسوية المنازعات، خاصة في ظل التحديات التي تواجه النظام القضائي التقليدي. ورغم الجهود المبذولة لتطوير هذا المجال، لا تزال هناك العديد من العقبات التي تعيق فعالية التحكيم في البلاد.
يعتمد العراق على مجموعة من القوانين لتنظيم التحكيم، منها قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969، وقانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم 30 لسنة 1928، وقانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006. كما انضم العراق إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 في 9 فبراير 2022، مما يسهل الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية. وبالرغم من هذا الإطار القانوني، يواجه التحكيم في العراق عدة تحديات، أبرزها غياب قانون تحكيم موحد.
على الصعيد الدولي، وفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، بلغ إجمالي عدد قضايا تسوية منازعات الاستثمار(ICSID) التي كانت العراق طرفاً فيها 6 قضايا.
وتُظهر هذه الأرقام تزايدًا ملحوظًا في عدد قضايا التحكيم الاستثماري في العراق، مما يعكس أهمية وجود إطار قانوني فعال وواضح للتعامل مع مثل هذه المنازعات، وهو ما يجري العمل عليه حالياً من خلال مشروع قانون التحكيم العراقي الجديد.
التنظيم التشريعي للتحكيم في العراق
يُنظّم التحكيم في العراق حاليًا بموجب المواد (251–276) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969. إلا أن هذه المواد تُعتبر قديمة نسبياً ولا تتماشى بالكامل مع المعايير الدولية الحديثة، مما دفع العراق إلى اتخاذ خطوات لتحديث نظام التحكيم.
المسائل التي يجوز فيها التحكيم
وفقًا للمادة 254 من قانون المرافعات المدنية، يجوز التحكيم في المسائل التي يجوز فيها الصلح، بشرط أن يكون الأطراف ذوي أهلية قانونية للتصرف في حقوقهم. كما يُجيز القانون التحكيم بين الزوجين في بعض الحالات، وفقًا لقانون الأحوال الشخصية وأحكام الشريعة الإسلامية.
المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم
لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، والتي تشمل:
- القضايا الجنائية: مثل الجرائم والحدود، حيث تعد من اختصاص القضاء الجنائي ولا يجوز فيها الصلح أو التحكيم.
- المسائل المتعلقة بالنظام العام: كالمنازعات المتعلقة بالجنسية، والطلاق، والنسب، والإرث، والنفقة. ومع ذلك، يجوز التحكيم في بعض الجوانب المالية المرتبطة بالأحوال الشخصية، مثل تقدير النفقة أو المهر.
- المسائل التي تتعلق بحقوق القُصّر أو المحجور عليهم: لا يجوز التحكيم فيها إلا بإذن من المحكمة المختصة.
مدى توافق القانون العراقي مع قانون الأونسيترال النموذجي
يعد قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي معيارًا دوليًا يُسترشد به في تشريعات التحكيم. ولا يتوافق التنظيم القانوني العراقي الحالي تمامًا مع هذا النموذج، مما أدى إلى غياب إطار قانوني شامل للتحكيم الدولي، بالإضافة إلى صياغات غير واضحة تؤدي إلى تفسيرات متباينة. مما دفع العراق إلى العمل على مشروع قانون جديد للتحكيم التجاري يهدف إلى مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية، بما في ذلك قانون اليونسيترال النموذجي.
موقف العراق من الاتفاقيات الدولية
اتفاقية واشنطن :(ICSID)
وفي خطوة استراتيجية لتعزيز بيئة الاستثمار وتوفير حماية قانونية للمستثمرين الأجانب، انضم العراق إلى اتفاقية واشنطن لعام 1965 بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى .(ICSID)
وقع العراق على اتفاقية ICSID في 17 نوفمبر 2015، وأودع في نفس اليوم وثيقة التصديق لدى البنك الدولي، ليصبح الدولة رقم 160 التي توقع الاتفاقية.
ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في العراق في 17 ديسمبر 2015، بعد مرور 30 يومًا من إيداع وثيقة التصديق، وفقًا للمادة 68(2) من الاتفاقية.
اتفاقية نيويورك 1958:
في إطار جهود العراق لتعزيز بيئة الاستثمار وتحديث الإطار القانوني للتحكيم، انضم العراق إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية. فبتاريخ 11 نوفمبر 2021 أودع العراق وثيقة الانضمام لدى الأمم المتحدة، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في العراق في 9 فبراير 2022.
وقد أبدى العراق ثلاث تحفظات عند انضمامه:
- عدم السريان الرجعي: تُطبق الاتفاقية فقط على أحكام التحكيم الصادرة بعد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في العراق.
- المعاملة بالمثل: تُطبق الاتفاقية فقط على أحكام التحكيم الصادرة في دول متعاقدة أخرى تُعامل العراق بالمثل.
- المنازعات التجارية فقط: تُطبق الاتفاقية فقط على المنازعات الناشئة عن علاقات قانونية تعد تجارية بموجب القانون العراقي.
جاء هذا الانضمام في سياق جهود الحكومة العراقية لإصلاح البيئة القانونية للاستثمار، خاصة في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه البلاد آنذاك. ويعد هذا التطور خطوة مهمة نحو توفير آلية دولية محايدة لتسوية المنازعات بين المستثمرين الأجانب والدولة، مما يعزز من ثقة المستثمرين ويشجع على تدفق الاستثمارات الأجنبية.
الاتفاقيات الثنائية (BITs)
أبرم العراق عددًا من اتفاقيات الاستثمار الثنائية (BITs) مع دول مختلفة لتعزيز وحماية الاستثمارات المتبادلة. وتتضمن هذه الاتفاقيات بنودًا تهدف إلى توفير بيئة استثمارية مستقرة وجاذبة للمستثمرين الأجانب.
ووفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، فإن العراق قد وقع على أكثر من 30 اتفاقية استثمار ثنائية مع دول مثل اليابان، الكويت، فرنسا، ألمانيا، الأردن، وأرمينيا. ومع ذلك، فإن عددًا محدودًا من هذه الاتفاقيات دخل حيز التنفيذ.
على سبيل المثال، وقّع العراق اتفاقية مع اليابان في عام 2012 لتعزيز وحماية الاستثمارات بين البلدين. كما أبرم اتفاقية مع الكويت في عام 1964، والتي تم استبدالها باتفاقية جديدة في عام 2013.
تُظهر هذه الاتفاقيات التزام العراق بتعزيز بيئة الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، من خلال توفير إطار قانوني يضمن حقوق المستثمرين ويشجع على تدفق الاستثمارات إلى البلاد.
تحديات تنفيذ أحكام التحكيم في العراق
- غياب قانون تحكيم خاص: لا يوجد في العراق قانون تحكيم مستقل ومحدث يتماشى مع المعايير الدولية، مما يؤدي إلى الاعتماد على نصوص متفرقة في قوانين مختلفة، مثل قانون المرافعات المدنية وقانون تنفيذ الأحكام الأجنبية. هذا التشتت القانوني يعيق تطوير بيئة تحكيمية فعالة وجاذبة للاستثمار.
- التحفظات على اتفاقية نيويورك: انضمام العراق إلى اتفاقية نيويورك عام 2021 شمل تحفظات، مثل تطبيق المعاملة بالمثل، مما يحد من نطاق تطبيق الاتفاقية.
- تحديات ثقافية ومؤسسية: لا تزال ثقافة التحكيم في العراق غير راسخة بشكل كافٍ، ويُفضل العديد من الأطراف اللجوء إلى القضاء التقليدي، حيث تفتقر المؤسسات التحكيمية المحلية إلى الدعم والتطوير اللازمين لتعزيز دورها في تسوية المنازعات.
المتطلبات القانونية للحصول على الصيغة التنفيذية لحكم التحكيم في العراق
لاكتساب حكم التحكيم الصيغة التنفيذية في العراق، يجب أولًا إيداع نسخة من الحكم وأصل اتفاق التحكيم لدى المحكمة المختصة خلال ثلاثة أيام من صدوره، وفقًا للمادة 271 من قانون المرافعات المدنية. ثم يُقدّم الطرف المستفيد طلبًا لتنفيذه مرفقًا بالمستندات المطلوبة، بما في ذلك نسخ مصدقة من الحكم والاتفاق، وترجمة معتمدة إذا كانت الوثائق بلغة أجنبية. تقوم المحكمة بمراجعة الحكم للتأكد من صحة تشكيل هيئة التحكيم، وسلامة الإجراءات، وعدم مخالفة الحكم للنظام العام أو وجود أسباب للبطلان. وإذا توافرت هذه الشروط، تصدر المحكمة أمرًا بمنح الحكم الصيغة التنفيذية.
تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية
بعد انضمام العراق إلى اتفاقية نيويورك لعام 1958 بموجب القانون رقم 14 لسنة 2021، أصبحت أحكام التحكيم الأجنبية قابلة للتنفيذ في العراق، وذلك وفقاً لشروط التنفيذ المنصوص عليها في المادة الرابعة من الاتفاقية:
- أن يكون الحكم صادرًا في دولة طرف في الاتفاقية.
- تقديم المستندات المطلوبة، بما في ذلك نسخة من الحكم واتفاق التحكيم وترجمة معتمدة إذا لزم الأمر.
- عدم وجود أسباب لرفض التنفيذ كما هو منصوص عليه في المادة 5 من الاتفاقية، مثل تعارض الحكم مع النظام العام أو عدم إخطار الطرف المحكوم عليه بشكل صحيح.
أبرز قضايا التحكيم
شهد العراق عدة قضايا تحكيمية بارزة على الساحة الدولية، خاصة في مجال منازعات الاستثمار. وفيما يلي أبرز هذه القضايا:
قضية Agility ضد جمهورية العراق
تقدمت شركة Agility الكويتية بدعوى تحكيمية ضد العراق أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) عام 2017، مدعية أن السلطات العراقية قامت بمصادرة استثمارها في شركة كورك تيليكوم، مما أدى إلى خسائر تجاوزت 380 مليون دولار. استندت Agility في دعواها إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية بين الكويت والعراق. في فبراير 2021، أصدرت هيئة التحكيم حكماً برفض جميع مطالبات Agility، معتبرة أن العراق لم ينتهك التزاماته بموجب الاتفاقية. لاحقًا، قدمت Agility طلبًا لإبطال الحكم، وفي فبراير 2024، أصدرت لجنة الإبطال حكماً بإبطال الحكم السابق، مما أعاد فتح القضية أمام هيئة تحكيم جديدة.
قضية AHG Industry GmbH & Co. KG ضد جمهورية العراق
في عام 2020، رفعت شركة AHG الألمانية دعوى تحكيمية ضد العراق أمام ICSID، مدعية أن الحكومة العراقية انتهكت اتفاقية الشراكة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي من خلال إجراءات تعسفية أدت إلى خسائر للشركة. في سبتمبر 2022، أصدرت هيئة التحكيم حكماً برفض الدعوى، معتبرة أن العراق لم يوافق صراحة على التحكيم بموجب الاتفاقية المذكورة.
قضية Itisaluna Iraq LLC وآخرين ضد جمهورية العراق
تقدمت شركة Itisaluna وشركاؤها بدعوى تحكيمية ضد العراق أمام ICSID عام 2017، مدعية أن الحكومة العراقية انتهكت اتفاقية الاستثمار لمنظمة التعاون الإسلامي من خلال إجراءات تعسفية أدت إلى خسائر للشركة. وفي أبريل 2020، أصدرت هيئة التحكيم حكماً برفض الدعوى، معتبرة أن الاتفاقية لا تتضمن موافقة واضحة من العراق على التحكيم.
تُظهر هذه القضايا التحديات التي تواجه المستثمرين في العراق، خاصةً فيما يتعلق بتفسير الاتفاقيات الدولية وموافقة الدولة على التحكيم. كما تعكس أهمية وجود إطار قانوني واضح للتحكيم في العراق لضمان حماية الاستثمارات الأجنبية.
TransCanada Turbines Ltd ضد وزارة الكهرباء العراقية
في قضية التحكيم رقم 21199/ZF/AYZ أمام غرفة التجارة الدولية، قامت شركة ترانس كندا توربينز المحدودة برفع دعوى ضد وزارة الكهرباء العراقية، ممثلة بالمديرية العامة للكهرباء لمنطقة الفرات الأوسط، بسبب نزاع تعاقدي يتعلق بتوريد وصيانة التوربينات. أصدرت هيئة التحكيم حكمها النهائي في 5 مارس 2021، والذي تضمن إلزام الجانب العراقي بدفع تعويضات مالية لصالح الشركة الكندية.
خاتمة
في السنوات الأخيرة، اتخذت جمهورية العراق خطوات ملموسة لتحديث الإطار القانوني للتحكيم التجاري، بهدف تعزيز بيئة استثمارية جاذبة وموثوقة. تأتي هذه الجهود في سياق سعي العراق لتقليل الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل، من خلال توفير آليات فعالة لتسوية المنازعات التجارية والاستثمارية.
ففي خطوة استراتيجية، انضم العراق إلى اتفاقية الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها (اتفاقية نيويورك). ويعد هذا الانضمام تطورًا مهمًا، حيث يلتزم العراق بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، مما يعزز ثقة المستثمرين الأجانب في النظام القانوني العراقي.
ونظرًا لقدم الأحكام المتعلقة بالتحكيم في قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969، والتي لا تتماشى مع المعايير الدولية الحديثة، شرع العراق في إعداد مشروع قانون تحكيم جديد. يهدف هذا المشروع إلى توفير إطار قانوني حديث وفعال لإجراءات التحكيم، مستندًا إلى القانون الأونيسترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي.
وبدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي، نظم العراق ورش عمل ومناقشات تشاورية مع ممثلين من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. تهدف هذه المبادرات إلى بناء القدرات وزيادة الوعي بأهمية التحكيم والوساطة كوسائل فعالة لتسوية المنازعات، بالإضافة إلى تعزيز فهم اتفاقية نيويورك وأفضل الممارسات الدولية في هذا المجال.
من خلال هذه الخطوات، يُظهر العراق التزامه الجاد بتطوير بيئة قانونية تتماشى مع المعايير الدولية، مما يعزز مناخ الاستثمار ويُسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.