2025/05/08

شهدت الجزائر تطورًا ملحوظًا في تنظيم التحكيم، خاصةً مع التعديلات التشريعية التي تهدف إلى مواكبة المعايير الدولية وتعزيز مناخ الاستثمار. يبرز هذا المقال الإطار التشريعي للتحكيم في الجزائر، مراحل تطوره، آليات تنفيذ أحكامه، وأبرز القضايا التي كانت الجزائر طرفًا فيها.​

أولاً: قانون التحكيم الجزائري

يعد التحكيم في الجزائر وسيلة بديلة لتسوية المنازعات، وقد نظم المشرع الجزائري أحكامه ضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية، لاسيما في المواد من 1006 إلى 1061.

تُجيز المادة 1006 من القانون المذكور اللجوء إلى التحكيم في الحقوق التي يجوز للأشخاص التصرف فيها بحرية، مع استثناء المسائل المتعلقة بالنظام العام أو حالة الأشخاص وأهليتهم.

كما يُمنع على الأشخاص المعنوية العامة اللجوء إلى التحكيم، باستثناء الحالات المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية الدولية أو في إطار الصفقات العمومية.

وقد شهد التحكيم في الجزائر تطورًا تشريعياً ملحوظًا منذ الاستقلال، حيث مر بعدة مراحل من التقييد إلى الانفتاح التدريجي، وصولاً إلى تبني إطار قانوني حديث يواكب المعايير الدولية.​

المرحلة الأولى: ما قبل 1993 – التحفظ والتقييد

في هذه المرحلة، كان المشرع الجزائري يتخذ موقفًا متحفظًا تجاه التحكيم، خاصة في القضايا التي تكون الدولة أو الأشخاص الاعتباريون العامون طرفًا فيها. وقد تجلى ذلك في قانون الإجراءات المدنية لسنة 1966، الذي لم يكن يعترف بالتحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات، مما أدى إلى استبعاد اللجوء إليه في العديد من الحالات.​

المرحلة الثانية: تعديل 1993 – بداية الانفتاح

شهد عام 1993 نقطة تحول في موقف الجزائر من التحكيم، حيث تم تعديل قانون الإجراءات المدنية ليسمح باللجوء إلى التحكيم في بعض الحالات، بما في ذلك القضايا التي تكون فيها الدولة أو الأشخاص الاعتباريون العامون طرفًا، مما شكل بداية لانفتاح الجزائر على التحكيم كوسيلة بديلة لحل النزاعات.

المرحلة الثالثة: إصلاح 2008 – التحديث والتكريس

في عام 2008، أُدخلت تعديلات جوهرية على قانون الإجراءات المدنية والإدارية، خاصة في المواد من 1006 إلى 1061. وقد جاء هذا الإصلاح ليكرس التحكيم كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات، معتمدًا على مبادئ مستمدة من قانون اليونسيترال النموذجي، ومؤكدًا على استقلالية اتفاق التحكيم، وضرورة كتابته، وتنظيم إجراءات تعيين المحكمين، وتحديد مدة إصدار الحكم التحكيمي، بالإضافة إلى تنظيم طرق الطعن في أحكام التحكيم.​

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التعديلات جاءت في سياق سعي الجزائر لتعزيز مناخ الاستثمار، وتوفير إطار قانوني يتماشى مع المعايير الدولية، مما يسهم في جذب المستثمرين الأجانب، وتحقيق العدالة الناجزة.​

ثانياً: تنفيذ أحكام التحكيم

يعد تنفيذ أحكام التحكيم في الجزائر خطوة حاسمة لضمان فعالية هذا المسار البديل لتسوية المنازعات. وبالرغم من اعتراف القانون الجزائري بحجية أحكام التحكيم، إلا أن تنفيذها يتطلب المرور بإجراءات قانونية محددة.​

تنفيذ أحكام التحكيم الداخلي

وفقًا للمادة 1031 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، فإن أحكام التحكيم هي أحكام نهائية تحوز حجية الأمر المقضي به بمجرد صدورها. ومع ذلك، لا تكتسب هذه الأحكام القوة التنفيذية تلقائيًا، بل يجب على الطرف المعني تقديم طلب إلى رئيس المحكمة المختصة لاستصدار أمر بالتنفيذ. ويتضمن هذا الطلب نسخة أصلية من حكم التحكيم، ويُشترط أن يكون الحكم غير مخالف للنظام العام.​

تنفيذ أحكام التحكيم التجاري الدولي

بالنسبة لأحكام التحكيم الصادرة خارج الجزائر، يتعين على الطرف الراغب في التنفيذ تقديم طلب إلى المحكمة المختصة للاعتراف بالحكم ومنحه الصيغة التنفيذية. ويخضع هذا الإجراء لعدة شروط، منها:​

  • الاعتراف بالحكم: يجب أن يكون الحكم صادرًا عن هيئة تحكيم مختصة، وأن يكون نهائيًا وملزمًا للطرفين.​
  • عدم مخالفة النظام العام: لا يُعترف بالأحكام المخالفة للنظام العام الجزائري.
  • الاتفاقيات الدولية: تُعزز اتفاقية نيويورك لعام 1958، التي صادقت عليها الجزائر، إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، شريطة توافر الشروط المذكورة أعلاه.​

ثالثًا: مدى سهولة أو صعوبة التنفيذ

يُعتبر تنفيذ أحكام التحكيم في الجزائر إجراءً قانونيًا منظمًا، إلا أنه لابد من التأكد من عدة أمور لتنفيذه:

  • التحقق من الشروط الشكلية: يجب أن يتضمن حكم التحكيم جميع البيانات المطلوبة، مثل أسماء الأطراف، وموضوع النزاع، وتاريخ ومكان إصدار الحكم.​
  • الاعتراضات المحتملة: قد يعترض الطرف الآخر على تنفيذ الحكم بحجة مخالفته للنظام العام أو لعدم استيفائه الشروط القانونية.​
  • الإجراءات القضائية: قد تستغرق عملية الحصول على أمر التنفيذ وقتًا، خاصة إذا تم الطعن في الحكم أو في أمر التنفيذ.​

رابعاً: أشهر قضايا التحكيم التي كانت الجزائر طرفاً فيها

​شهدت الجزائر خلال العقود الأخيرة عدة قضايا تحكيم دولي بارزة، خاصةً في مجالات الطاقة والبنية التحتية، مما أدى إلى خسائر مالية كبيرة. فيما يلي أبرز هذه القضايا:​

قضية سوناطراك ضد إديسون الإيطالية

في واحدة من أبرز قضايا التحكيم، خسرت شركة سوناطراك الجزائرية قضية أمام شركة إديسون الإيطالية، حيث أُجبرت على دفع أكثر من 300 مليون يورو كتعويضات. تعود هذه القضية إلى نزاع حول أسعار الغاز في إطار عقود طويلة الأجل، وقد تم الفصل فيها عن طريق التحكيم الدولي. ​

قضية الخطوط الجوية الجزائرية مع شركة كندية

واجهت الجزائر قضية تحكيم دولي مع شركة كندية بعد فسخ عقد بناء المقر الجديد للخطوط الجوية الجزائرية. أدى هذا النزاع إلى تعويضات مالية كبيرة لصالح الشركة الكندية، مما ساهم في زيادة الخسائر المالية للجزائر في مجال التحكيم الدولي.​

خسائر مالية كبيرة في قضايا تحكيم دولي

وفقًا لتقارير رسمية، خسرت الجزائر ما يزيد عن 10 مليارات دولار في قضايا تحكيم دولي خلال السنوات الأخيرة. في عام 2023 وحده، بلغت قيمة الخسائر نحو 1.3 مليار دولار، نتيجة نزاعات مع شركات استثمارية وأطراف تجارية أجنبية.​

وتعزى هذه الخسائر إلى عدة عوامل، منها ضعف التفاوض في العقود، وعدم الالتزام ببنود الاتفاقيات، وقلة الخبرة في إدارة المنازعات الدولية. كما أشار خبراء إلى أن غياب الوعي بأهمية التحكيم الدولي وعدم الاستعانة بمحكمين جزائريين مؤهلين ساهم في هذه الخسائر.​

وتبرز هذه القضايا أهمية تعزيز القدرات القانونية والمؤسسية للجزائر في مجال التحكيم الدولي، لضمان حماية مصالحها وتقليل الخسائر المالية المستقبلية.​

خامساً: اتفاقيات تتعلق بالتحكيم الجزائر طرفاً فيها

تعد الجزائر طرفًا في عدة اتفاقيات دولية تتعلق بالتحكيم، مما يعكس التزامها بتعزيز بيئة قانونية ملائمة لتسوية النزاعات بالطرق البديلة. فيما يلي أبرز هذه الاتفاقيات:​

اتفاقية نيويورك لعام 1958

انضمت الجزائر إلى اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها في عام 1989. تُعتبر هذه الاتفاقية من الركائز الأساسية في التحكيم التجاري الدولي، حيث تُلزم الدول الأعضاء بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الصادرة في دول أخرى، مما يعزز الثقة في نظام التحكيم الدولي.

اتفاقية واشنطن لعام 1965 (ICSID)

صادقت الجزائر على اتفاقية واشنطن التي أنشأت المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار .(ICSID)تهدف هذه الاتفاقية إلى توفير إطار قانوني لتسوية النزاعات بين الدول والمستثمرين الأجانب، مما يسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية من خلال توفير آلية تحكيمية محايدة.​

الاتفاقيات الثنائية لحماية الاستثمارات (BITs)

أبرمت الجزائر العديد من الاتفاقيات الثنائية لحماية وتشجيع الاستثمارات مع دول مختلفة، مثل مصر وتركيا وفرنسا. تتضمن هذه الاتفاقيات عادةً بنودًا تتيح للمستثمرين اللجوء إلى التحكيم الدولي لتسوية النزاعات المتعلقة بالاستثمارات، مما يوفر ضمانات قانونية إضافية للمستثمرين الأجانب.​

خاتمة:

تطور نظام التحكيم في الجزائر من مرحلة التقييد إلى مرحلة الانفتاح والتحديث، مما يعكس رغبة المشرع في توفير بيئة قانونية ملائمة لتسوية المنازعات بفعالية. ومع ذلك، فإن تنفيذ أحكام التحكيم، خاصةً الدولية منها، لا يزال يواجه تحديات تتطلب تعزيز القدرات القانونية والمؤسسية، وتطوير آليات التنفيذ لضمان حماية حقوق الأطراف وتحقيق العدالة الناجزة.​