استئناف باريس ترسخ محدودية الرقابة القضائية على أحكام التحكيم
17/07/2025

أثارت هذه القضية إشكالية قانونية مهمة تتعلق بحدود رقابة القضاء الفرنسي على أحكام التحكيم الاستثماري الدولية، ومدى إمكانية إبطال الحكم التحكيمي استنادًا إلى الدفوع بعدم الاختصاص الزمني أو الإقليمي أو الموضوعي ratione temporis, loci, materiae لهيئة التحكيم، وهل تعد هذه الدفوع سببًا مشروعًا للإبطال أم أنها ترتبط بجوهر النزاع وتخرج عن نطاق الرقابة القضائية في دعوى الإبطال.

ملخص الوقائع

ترجع وقائع النزاع إلى عملية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، حيث ادعت بنك أوشادبنك الأوكراني المملوك للدولة تعرض استثماراته في القرم للمصادرة غير المشروعة. استند البنك إلى اتفاقية الاستثمار الثنائية المبرمة بين روسيا وأوكرانيا عام 1998BIT، وأقام تحكيمًا أمام محكمة التحكيم الدائمة PCA دون مشاركة روسيا في الإجراءات، وأسفر التحكيم عن حكم لصالح أوشادبنك بمبلغ 1.1 مليار دولار أمريكي.

فلجأت روسيا إلى محكمة الاستئناف في باريس لإبطال الحكم، وقضت المحكمة في البداية لصالح روسيا بعدم اختصاص هيئة التحكيم. إلا أن محكمة النقض الفرنسية ألغت هذا الحكم وأعادت القضية إلى محكمة الاستئناف للفصل فيها من جديد، فأًصدرت استئناف باريس هذا الحكم في 1 يوليو 2025.

دفوع روسيا ورد المحكمة

ارتكزت دفوع روسيا على ثلاثة اعتراضات على اختصاص هيئة التحكيم:

  •  عدم الاختصاص الزمني Ratione Temporis بحجة أن الاستثمارات تمت قبل دخول الاتفاقية حيز النفاذ في 1 يناير 1992. ردت المحكمة على ذلك بأن تحديد الاختصاص الزمني يجب أن يتم وفق تاريخ نشوء النزاع وليس تاريخ إنشاء الاستثمار، وأكدت أن النزاع نشأ في 27 يناير 2000، أي بعد نفاذ الاتفاقية، مما يفي بشرط الاختصاص الزمني .
  • عدم الاختصاص الإقليمي Ratione Loci استنادًا إلى أن الوضع القانوني المتنازع عليه لشبه جزيرة القرم يجعل الاتفاقية غير قابلة للتطبيق على هذه الأراضي. رفضت المحكمة  هذا الدفع، واعتبرت أن هذه الاعتراضات تتعلق بتطبيق الاتفاقية موضوعيًا ولا تتعلق بمسألة الاختصاص، وأكدت اختصاص هيئة التحكيم لأن الاستثمارات كانت في أرض تدعي روسيا السيادة عليها وتمارس السيطرة الفعلية عليها بعد عام 2014.
  • عدم الاختصاص الموضوعي Ratione Materiae مدعية أن الاستثمارات لم تكن استثمارات أجنبية وفقًا للاتفاقية، إذ تمت بواسطة كيان أوكراني داخل أوكرانيا. ورأت المحكمة أنه لا يوجد قيد زمني على تعريف الاستثمارات وفق الاتفاقية، ورفضت حجة روسيا بأن الحماية تنطبق فقط على الاستثمارات الأجنبية عند إنشائها، وأوضحت أن الاتفاقية تحمي الاستثمارات القائمة عند نشوء النزاع بغض النظر عن التغيرات الإقليمية اللاحقة.

الحكم وأسانيده القانونية

قضت المحكمة برفض طلب الإبطال وتأييد حكم التحكيم، مؤكدةً ما يلي:

  • أن اعتراضات روسيا تتعلق بتطبيق الاتفاقية موضوعيًا، وليست دفوعًا جدية بعدم الاختصاص القضائي لهيئة التحكيم بما يبرر إبطال الحكم.
  • أن التفسير السائد في القانون الفرنسي أن الرقابة القضائية على أحكام التحكيم محدودة في إطار اختصاص الهيئة ووجود اتفاق التحكيم فقط، دون الدخول في جوهر النزاع أو تفسير الاتفاقيات.
  • أيدت استقلالية شرط التحكيم واتفاق التحكيم عن النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية.

المبادئ التي أرستها المحكمة

  • التفريق بين الاختصاص القضائي وهيئة التحكيم وبين مسائل التفسير الموضوعي للمعاهدة، وأن الثانية لا تشكل سببًا للإبطال.
  • تحديد الاختصاص الزمني لهيئة التحكيم بناءً على تاريخ نشوء النزاع، وليس تاريخ إنشاء الاستثمار.
  • تأكيد محدودية رقابة المحاكم الفرنسية في دعوى الإبطال، في إطار حماية مركز باريس كوجهة صديقة للتحكيم الدولي.
  • تأكيد استقلال اتفاق التحكيم وبقائه ساريًا حتى في حالات النزاعات الجيوسياسية أو الإقليمية.

أهمية الحكم للمحامين والمحكمين

يتيح الحكم للمحامين فهم حدود دفوع عدم الاختصاص أمام التحكيم الاستثماري وتقدير فرص نجاحها في مرحلة الإبطال، ويوجههم إلى ضرورة إثارة هذه الدفوع مبكرًا أمام هيئة التحكيم والتركيز على الحجج الموضوعية لاحقًا.

كما يطمئن الحكم المحكمين أن محاكم باريس لن تتدخل في جوهر النزاع عند النظر في دعوى الإبطال، مما يعزز استقلالهم ويشجعهم على الاستمرار في نظر النزاعات المعقدة دون خشية من الرقابة القضائية المفرطة.

يعزز هذا الحكم مركز باريس كمركز تحكيم صديق للتحكيم الاستثماري الدولي، ويدعم الثقة في التحكيم كوسيلة لحسم النزاعات الاستثمارية حتى في القضايا ذات الأبعاد الجيوسياسية.


نقلاً عن: إيوانا نول تيودور  Ioana Knoll-Tudor

محامية تحكيم دولي، وشريك بشركة أدليشو جودارد Addleshaw Goddard، والسكرتير العام لمؤسسة Paris Arbitration Week PAW، ونائب رئيس نادي التحكيم الاسباني برومانيا Club Espanol de Arbitraje CEA Romania