22/06/2025

بجلسة 11 سبتمبر 2023، أصدرت محكمة تمييز دبي حكمها في الطعن رقم 110 لسنة 2023 تجاري، بشأن نزاع متعلق بعيوب في تنفيذ مشروع مقاولات سكني، وتناولت المحكمة فيه جملة من الإشكاليات القانونية من أهمها: مدى صحة شرط التحكيم في عقد المقاولة ومدى صحة نزع الاختصاص من القضاء.

أولاً: ملخص الوقائع

أقام رب العمل دعوى أمام المحكمة الابتدائية ضد شركة مقاولات بسبب مخالف شروط تنفيذ أعمال بناء مخالفة للمواصفات، ما أدى إلى ظهور عيوب إنشائية وتشطيبية في مبنى سكني، وألحق به أضرارًا مادية جسيمة. ورغم إقرار الشركة بالمسؤولية وتعهدها بالإصلاح، إلا أنها لم تنفذ تعهداتها، فصدر حكم بإلزامها بسداد مبلغ (2,503,101.72) درهم. طعن الطرفان بالحكم أمام محكمة الاستئناف، ورفضت المحكمة الطعنين وأيدت الحكم الابتدائي. بعد ذلك، طعنت الشركة (المدعى عليها) على الحكم بطريق التمييز بموجب الطعن رقم 110 لسنة 2023 تجاري، طالبة نقض الحكم، وقدمت مذكرتها إلكترونيًا بتاريخ 18/1/2023، وأُحيل الطعن إلى المحكمة المختصة للنظر فيه.

ثانياً: الدفوع والمبادئ القانونية

تمسكت الطاعنة في السبب الأول من الطعن بعدم قبول الدعوى لوجود شرط تحكيم وارد بالبند رقم 29 من عقد المقاولة وأوضحت أن هذا الشرط جاء صريحاً وواضحاً في النص على أن أي نزاع ينشأ بين الطرفين يتم تسويته عن طريق التحكيم وأنه في حال عدم الاتفاق على محكم واحد يعين كل طرف محكماً ويختار المحكمان محكماً ثالثاً وأكدت الطاعنة أن عبارة "تتمتع محاكم دبي بالاختصاص القضائي" الواردة في ختام البند لا تعني اختصاص القضاء العادي بالفصل في النزاع وإنما يقصد بها مجرد التصديق على حكم لجنة التحكيم بعد صدوره كما دفعت الطاعنة بأن العقد أحال إلى شروط الفيديك بالبند رقم 32 ما يفيد التزام الطرفين بها بما فيها شرط التحكيم.


رفضت المحكمة هذا الدفع وقررت أن شرط التحكيم وإن ورد بالبند 29 من العقد إلا أنه لم يتضمن نزعاً صريحاً لاختصاص محاكم دبي كما أن النص ذاته أكد في ختامه على تمتع محاكم دبي بالاختصاص القضائي وهو ما يدل على أن الطرفين لم يقصدا قصر تسوية النزاعات على التحكيم فقط بل أبقيا الباب مفتوحاً للجوء إلى القضاء العادي كما أكدت المحكمة أن التحكيم لا ينعقد إلا باتفاق صريح وواضح ومكتوب وأشارت إلى أن الإحالة العامة إلى الفيديك لا تكفي لإثبات وجود شرط تحكيم ملزم طالما لم تتم الإحالة تحديداً إلى شرط التحكيم ذاته ولا يظهر بوضوح أن الطرفين أرادا إدماج هذا الشرط في العقد وأكدت المحكمة أن الأصل هو اختصاص القضاء ولا يُفترض نزعه إلا بنص صريح وبالتالي فإن لجوء المدعي إلى القضاء لا يشكل مخالفة لما اتُفق عليه ويكون الدفع بعدم القبول لوجود شرط التحكيم غير قائم على أساس سليم.

يظهر من العرض السابق أن المحكمة قد بنت رفضها للدفع على المبادئ التالية:

  •  لا يفترض نزع اختصاص القضاء العادي إلا بنص صريح: الأصل في الاختصاص هو القضاء، ولا يجوز افتراض التنازل عنه أو نزع اختصاصه بمجرد وجود شرط تحكيم عام أو غير واضح، بل يجب أن يكون النص صريحًا وواضحًا في استبعاد اللجوء إلى القضاء لصالح التحكيم.
  • عدم التوسع في تفسير شرط التحكيم: يجب تفسير شرط التحكيم تفسيرًا دقيقًا وضيقًا دون التوسع فيه، ولا يُعتد بشرط التحكيم إذا شابه غموض أو تعارض مع نصوص أخرى بالعقد تدل على بقاء اختصاص المحاكم.
  • لا تكفي الإحالة العامة إلى عقود الفيديك لإثبات الاتفاق على التحكيم: إذا أحال العقد إلى شروط الفيديك أو غيرها من العقود النموذجية دون أن يحدد بشكل صريح إدماج شرط التحكيم ضمنها، فلا يُعتد بهذه الإحالة لإثبات وجود اتفاق تحكيمي نافذ.
  • اشتراط اختصاص القضاء العادي في العقد يُضعف من إلزامية شرط التحكيم: إذا تضمن العقد نصًا يُثبت اختصاص محاكم الدولة، فإن ذلك يعد قرينة على بقاء الاختصاص الأصيل للقضاء، ما لم يتم نزع هذا الاختصاص صراحةً عبر شرط تحكيمي لا يحتمل التأويل.

ثالثاً: المقارنة مع الاجتهاد القضائي الدولي

في حكم Heyman v. Darwins Ltd [1942] الصادر من (House of Lords, UK)، أكدت المحكمة أن شرط التحكيم يجب أن يكون "clear and unequivocal"  (واضحًا لا لبس فيه)، ولا يمكن افتراض نية الأطراف في التخلي عن القضاء لصالح التحكيم ما لم يظهر هذا القصد بشكلٍ لا غموض فيه.


في حكم Kruppa v. Benedetti (2014, UK Commercial Court) وجدت المحكمة البريطانية أن بند "سنحاول أولاً حل النزاع عبر التحكيم في سويسرا" لم يشكل اتفاقًا ملزمًا، واعتبرته مجرد رغبة عامة غامضة فضلاً عن كون سويسرا متعددة الاختصاصات القضائية.

رابعاً: أثر الحكم على ممارسات المحامين والمقاولين

يترتب على حكم محكمة التمييز بدبي في الطعن رقم 110 لسنة 2023 تجاري أثر مباشر في توجيه ممارسات المحامين من حيث التعامل مع شروط التحكيم الواردة في العقود حيث أرسى الحكم مبدأ مفاده أن الاتفاق على التحكيم لا يُفترض ولا يُستنبط ضمنًا وإنما يجب أن يكون صريحًا وواضحًا لا لبس فيه وهو ما يفرض على المحامي عند مراجعة العقود أو إعدادها أن يتحقق من خلو شرط التحكيم من أي عبارات مزدوجة أو صياغات تؤدي إلى التباس إرادة الأطراف بشأن الوسيلة المختارة لحل النزاعات كما أن الحكم يؤكد على أهمية تفسير شرط التحكيم تفسيرًا دقيقًا ومنضبطًا مما يضع على عاتق المحامي واجب التوجيه القانوني السليم لعملائه سواء عند التفاوض على العقد أو عند نشوء النزاع بشأن آلية حله إذ لا يكفي أن يتضمن العقد شرطًا عامًا للتحكيم بل يجب أن يتضمن ما يفيد استبعاد اختصاص القضاء العادي بشكل صريح لا يحتمل اللبس.

أما بالنسبة للمقاولين والشركات الهندسية يرشد الحكم إلى ضرورة التنسيق المسبق مع المستشار القانوني عند صياغة هذه البنود ضمانًا لإحكام الصياغة وتفادي إهدار الوقت والجهد والمال لاحقًا في منازعات الاختصاص.

خاتمة:

يؤكد الحكم أن التحكيم لا يُفترض ولا يُستنبط، بل يتطلب اتفاقًا صريحًا لا لبس فيه، مما يعزز ضرورة الدقة في صياغة العقود. وبالتالي، يشكل هذا الحكم مرجعًا عمليًا للمحامين عند التفاوض على العقود أو صياغتها، وللمقاولين عند إبرام اتفاقياتهم، بما يدفع نحو مزيد من الدقة والصرامة القانونية في تضمين بنود تسوية النزاعات.